العولمة- قلق عالمي عميق، وتحديات أمنية، ودور متضائل للدولة

المؤلف: صدقة يحيى فاضل10.31.2025
العولمة- قلق عالمي عميق، وتحديات أمنية، ودور متضائل للدولة

في أعقاب هذا الانتشار "العالمي" الواسع النطاق، تنشأ العديد من الاستفسارات المشروعة، والناجمة عن "قلق" عالمي متزايد، له ما يبرره بشكل كامل. ويستتبع ذلك ضرورة التعرف على الإجابات الصادقة عنها. ومن بين هذه التساؤلات المحورية:

- هل ستفضي العولمة الراهنة إلى ترسيخ الانقسام العالمي إلى شطرين متنافرين... طبقة فاحشة الثراء والنفوذ والسلطة، وطبقة أخرى تعاني وطأة الفقر المدقع والعجز وقلة الموارد؟!--mobileAd-->

- هل ستساهم العولمة المعاصرة في إرساء دعائم الأمن والسلم العالميين، على أسس أكثر إنصافًا ومعقولية؟!

- هل ستؤدي هذه العولمة إلى إنهاء دور الدولة، وتحويل العالم إلى كيان تحكمه الشركات العملاقة، متعددة الجنسيات وعابرة للقارات؟!

- هل سيؤول كامل النشاط الاقتصادي والاجتماعي في مختلف دول العالم إلى قبضة "القطاع الخاص" وحده؟!



إن الجواب الأولي على هذه الأسئلة يبدو جليًا في ذهن أي مراقب نزيه وموضوعي... ويمكن تلخيصه – بإيجاز شديد – على النحو التالي:

1- نعم، ستؤدي العولمة – بالصورة التي تسير عليها الآن – إلى: زيادة ثراء الأغنياء، وتفاقم فقر الفقراء – على مستوى العالم. فهي "عملية" (أو حركة) "لا تبالي بالقيم الإنسانية"... دستورها هو الدولار، ومنطلقها هو "القوة" الغاشمة، بأنواعها، وعناصرها المتنوعة. وقد أكد ذلك علماء سياسة أمريكيون، وغيرهم... (راجع كتاب: هانس - بيتر مارتن، وهارولد شومان، فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية - ترجمة: د. عدنان عباس علي (الكويت: عالم المعرفة، 1998 م).

2- يبدو أن العولمة السائدة ستفرض ضربًا من "السلام" العالمي... الذي لا يستند إلى أسس عادلة ورصينة... تجعل الأمن الدولي (الحقيقي) ضربًا من الخيال.

3 – تسعى العولمة جاهدةً إلى إنهاء الدور التقليدي للدولة، أو تقليصه، إلى الحد الأدنى الممكن.

4 - وتحاول كذلك إلغاء الدور الاقتصادي للحكومات، وأي مظهر بارز من مظاهر القطاع العام... تمهيدًا لحصر مهام الحكومات في: صون الأمن والنظام، وضمان تطبيق القوانين والتشريعات فقط.



من هذا المنطلق، نرى أن مسيرة العولمة تتسم بالانتقائية (المحاباة) وبالتوجه المادي المحض... وتسير في اتجاه لا يخدم – في واقع الأمر – المصلحة العامة العليا للمجتمع العالمي... أي: مصلحة ومنفعة وتطلعات وآمال غالبية شعوب المعمورة. وهذه الانتقائية والمادية هما نتاج: الأنانية المفرطة لدى القوى الدولية المتنفذة، وعدم الاكتراث الحقيقي بمعاناة الآخرين. وهي "عوامل" تنذر بفشل هذه العملية... التي هي وإن كانت حتمية، إلا أن جوهرها وطبيعة توجهها هما – في نهاية المطاف – ما سيحكم نتائجها، بالنسبة للإنسانية جمعاء.

ولن تكون "العولمة" نافعة – وناجحة – ما لم يتم تصحيح مسارها، وتعديل جوهرها ومضمونها. فالرأسمالية المقيدة (الخاضعة للضوابط) تتيح للحكومات "التدخل" في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها، من أجل حماية المصلحة العامة لهذه الشعوب، والفئات الأكثر احتياجًا فيها. ومن خلال التدخل – الرشيد والمدروس – لحماية هذه المصالح، والحفاظ على الهويات الأصيلة مع الانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى، يمكن للعولمة أن تسلك طريقًا يخدم كافة شعوب الأرض... ويسهم في إرساء دعائم حقيقية للأمن والسلم العالميين.



ومما لا شك فيه أن تقويم مسار العولمة سيؤدي بالضرورة إلى تصحيح مسار العلاقات الدولية بأسرها. ويتطلب ذلك بذل جهود مضنية من أجل إحداث "إصلاحات" جوهرية، وفي مقدمتها إصلاح منظومة الأمم المتحدة، إذ يتفق غالبية المراقبين على ضرورة "إصلاح" هذه المنظمة الدولية. فالعالم بأمسِّ الحاجة إلى "منظمة" توحد صفوفه، وتعمل بدأب على حفظ السلم والأمن الدوليين، وتعزيز التعاون الدولي، بما يخدم المصالح الإنسانية العليا. ولكن هيمنة قوى بعينها على هذه المنظمة، وتسخيرها لخدمة أهدافها الخاصة، بدلاً من رعاية المصلحة العامة العالمية، يقوض الغاية السامية من وجودها، ويحولها إلى أداة بغيضة لإلحاق الظلم والقهر ببعض الشعوب.

لذا، لا مناص من تحرك عالمي حثيث لوقف هذه السيطرة الغاشمة – سواء صدرت من الولايات المتحدة الأمريكية أو من غيرها. وباستطاعة القوى الكبرى، وعلى الأخص: الاتحاد الأوروبي، والصين، وروسيا، واليابان، أو ائتلاف من هذه القوى، وضع حد لهذه المهزلة. فما يحدث ليس في صالح أي منهم على الإطلاق، فضلاً عن كونه ليس في صالح العالم ككل. كما يجدر بالمجموعات الإقليمية المختلفة أن تعلن رفضها القاطع للسياسات الاستعمارية، وأن تتخذ إجراءات ملموسة تؤكد استياءها العميق... كأن تنسحب (بصورة جماعية، أو فردية) من المنظمة، احتجاجًا على استمرار خضوع هذه المنظمة "العالمية" لهيمنة مغرضة، تجعل تحقيقها لأهدافها النبيلة الأصلية ضربًا من المستحيل.



ومنذ خمسينيات القرن الماضي، تعالت الأصوات المطالبة بضرورة إعادة النظر في ميثاق هيئة الأمم المتحدة، ووظائفها، ومهامها... إلخ. وقد تركزت مطالب "إصلاح" هذه المنظمة على معظم بنود ميثاقها الأساسي، ولا سيما ما يتعلق بصلاحيات مجلس الأمن الدولي (وعلى وجه الخصوص: مسألة العضوية، والتصويت فيه)، وكذلك مجلس الوصاية، وبقية أجهزة الأمم المتحدة المتنوعة. إضافة إلى: ضرورة تعديل وصقل وتوضيح العديد من بنود "الفصل السابع" الحساس... الذي كثيرًا ما اتُخذ ذريعة للاعتداء السافر على دولة ما.

كما تضمنت هذه المطالب الملحة: ضرورة نقل مقر هذه المنظمة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى بلد محايد يتمتع بالنزاهة... بلد لا يسعى – ولا يمكنه أن يسعى – إلى الهيمنة على هذه المنظمة الحيوية، بما يخدم مصالح خاصة ضيقة فيه، ويلغي بالتالي الهدف الأسمى الذي أُنشئت المنظمة من أجله، مستغلاً وجود المقر فيه. ويمكن إحياء هذه الفكرة الآن، أو اقتراح موقع بديل مناسب آخر، عوضًا عن نيويورك. ولكن الأهم من ذلك كله هو: أن يتم تعديل دور وسلوك هذه المنظمة الفاعلة. والعالم بأسره الآن في أمسِّ الحاجة الماسة إلى هذه التعديلات الجذرية، وبأسرع وقت ممكن... قبل فوات الأوان. ولا شك أن تبني هذه الإصلاحات المنشودة سيدعم وجود "عولمة" أكثر عدلاً وإنصافًا ورخاءً.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة